"لا تعذليه".. قصيدة غزلية أبكت الفقراء والأمراء -
للشاعر "ابن زريق البغدادي "
أعدها للنشر: الطيب أديب
**********************
عاش "أبو
الحسن علي بن زريق الكاتب البغدادي" في العراق ، ولقب بـ "ابن
زريق" ، وهو شاعر مرهف الحس، قرر السفرمن بغداد إلى الأندلس طلبا للرزق
فتشبثت به زوجته التي تعشقه لتنمعه خوفا عليه من المخاطر، إلا أنه أصر على السفر
تاركا زوجته وأولاده متحملا المخاطر والهجر ،و لم يحفظ من أشعار ابن زريق إلا هذه
القصيدة "اليتيمة" ( لا تعذليه ) وقد وجدت معــــه عند وفاته سنة
أربعمائة وعشرين من الهجرة ، و فيها يخاطب زوجته ، ويؤكد لها حبه حتى الرمق
الأخير من حياته ، وقد عبر فيها تعبيرا صادقا عن تجربته مع الغربة والرحيل ، من
أجل الرزق ومعاناته وندمه لعدم استماعه لزوجته التي نصحته ولم يستمع إليها ، فظل
في غربته حيث لا أنيـــس ولا رفيـق ولا معين . ويحكى أن الأمير " أبو عبد
الرحمن " أميرقرطبة ،بكى حتى ابتلت لحيته بعد أن قرأ القصيدة ، وكذلك أبكت
الفقراء على مر العصور .ولاتزال تجربة ابن زريق تتكرر مع طالبي الرزق في بلاد
العرب الذين يلاقون الأهوال من أجل الهرب من أوضاعهم المعيشية الصعبة متحملين
المخاطر واللوعة والهجر في الغربة ، ولكن الذي لايتكرر هو تعبير ابن زريق عن هذه
المعاناة في قصيدته الرائعة التي قال فيها
:
" لاتعــذليـــه"
لا تَعذَلِـيـه
فَــإِنَّ الـعَـذلَ يُولِـعُـهُ... قَـد قَلـتِ حَقـاً وَلَكِـن لَيـسَ
يَسمَعُـهُ
جـاوَزتِ فِـي
لَومـهُ حَـداً أَضَـرَّبِـهِ... مِـن حَيـثَ قَـدرتِ أَنَّ اللَـومَ يَنفَعُـهُ
فَاستَعمِلِـي
الرِفـق فِـي تَأِنِيبِـهِ بَـدَلاً... مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنـى القَلـبِ
مُوجعُـهُ
قَـد كـانَ
مُضطَلَعـاً بِالخَطـبِ يَحمِلُـهُ... فَضُيَّقَـت بِخُطُـوبِ المَهـرِ
أَضلُـعُـهُ
يَكفِيـهِ مِـن
لَوعَـةِ التَشتِيـتِ أَنَّ لَــهُ... مِـنَ النَـوى كُـلَّ يَـومٍ مـا يُروعُـهُ
مـا آبَ مِــن
سَـفَـرٍ إِلّا وَأَزعَـجَـهُ... رَأيُ إِلـى سَـفَـرٍ بِالـعَـزمِ يَزمَـعُـهُ
كَأَنَّمـا هُـوَ
فِــي حِــلِّ وَمُرتـحـلٍ... مُـوَكَّـلٍ بِفَـضـاءِ الـلَـهِ يَـذرَعُـهُ
إِنَّ الزَمـانَ
أَراهُ فـي الرَحِيـلِ غِـنـىً... وَلَو إِلى السَـدّ أَضحـى وَهُـوَ يُزمَعُـهُ
تـأبـى المطـامـعُ
إلا أن تُجَـشّـمـه... للـرزق كـداً وكـم مـمـن يـودعُـهُ
وَمـا مُجـاهَـدَةُ
الإِنـسـانِ تَوصِـلُـهُ... رزقَـاً وَلادَعَــةُ الإِنـسـانِ تَقطَـعُـهُ
قَـد وَزَّع
اللَـهُ بَيـنَ الخَلـقِ رزقَهُـمُ... لَـم يَخلُـق اللَـهُ مِـن خَلـقٍ
يُضَيِّعُـهُ
لَكِنَّهُـم كُلِّفُـوا
حِرصـاً فلَسـتَ تَـرى... مُستَرزِقـاً وَسِـوى الغـايـاتِ تُقنُـعُـهُ
وَالحِرصُ في
الرِزاقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت... بَغِـيُ أَلّا إِنَّ بَغـيَ المَـرءِ
يَصـرَعُـهُ
وَالدهرُ يُعطِي
الفَتى مِـن حَيـثُ يَمنَعُـه... إِرثـاً وَيَمنَعُـهُ مِـن حَيـثِ يُطمِـعُـهُ
اِستَودِعُ اللَـهَ
فِـي بَغـدادَ لِـي قَمَـراً... بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارَ مَطلَـعُـهُ
وَدَّعـتُـهُ
وَبــوُدّي لَــو يُوَدِّعُـنِـي... صَفـوَ الحَـيـاةِ وَأَنّــي لا أَودعُــهُ
وَكَم تَشبَّثَ بـي
يَـومَ الرَحيـلِ ضُحَـىً... وَأَدمُـعِـي مُسـتَـهِـلّاتٍ وَأَدمُـعُــهُ
لا أَكُذب اللَهَ
ثـوبُ الصَبـرِ مُنخَـرقٌ... عَـنّـي بِفُرقَـتِـهِ لَـكِـن أَرَقِّـعُــهُ
إِنّـي أَوَسِّـعُ
عُـذري فِــي جَنايَـتِـهِ... بِالبيـنِ عِنـهُ وَجُـرمـي لا يُوَسِّـعُـهُ
رُزِقـتُ مُلكـاً
فَلَـم أَحسِـن سِياسَـتَـهُ... وَكُـلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ
وَمَـن غَـدا
لابِسـاً ثَـوبَ النَعِيـم بِـلا شَكـرٍ... عَلَيـهِ فَــإِنَّ الـلَـهَ
يَنـزَعُـهُ
اِعتَضتُ مِن
وَجـهِ خِلّـي بَعـدَ فُرقَتِـهِ... كَأسـاً أَجَـرَّعُ مِنهـا مــا أَجَـرَّعُـهُ
كَم قائِـلٍ لِـي
ذُقـتُ البَيـنَ قُلـتُ لَـهُ... الذَنـبُ وَاللَـهِ ذَنبـي لَسـتُ أَدفَـعُـهُ
أَلا أَقمـتَ
فَـكـانَ الـرُشـدُ أَجمَـعُـهُ... لَـو أَنَّنِـي يَـومَ بـانَ الرُشـدُ
اتبَـعُـهُ
إِنّــي
لَأَقـطَـعُ أيّـامِـي وَأنفِـذها... بِحَسـرَةٍ مِنـهُ فِـي قَلـبِـي تُقَطِّـعُـهُ
بِمَـن إِذا
هَجَـعَ الـنُـوّامُ بِــتُّ لَــهُ... بِلَوعَـةٍ مِنـهُ لَيلـى لَـسـتُ
أَهجَـعُـهُ
لا يَطمِئـنُّ
لِجَنبـي مَضـجَـعُ وَكَــذا... لا يَطمَئِـنُّ لَـهُ مُـذ بِنـتُ مَضجَـعُـهُ
ما كنت أحسب أن
الدهر يفجعني بـــه... ولا أن بــي الأيــام تفجـعــه
حَتّـى جَـرى
البَيـنُ فِيمـا بَينَنـا بِيَـدٍ... عَسـراءَ تَمنَعُنِـي حَـظّـي وَتَمنَـعُـهُ
فِي ذِمَّـةِ
اللَـهِ مِـن أَصبَحَـت مَنزلَـهُ... وَجـادَ غَيـثٌ عَلـى مَغنـاكَ يُمرِعُـهُ
مَـن عِنـدَهُ لِـي
عَـهـدُ لا يُضيّـعُـهُ... كَمـا لَـهُ عَهـدُ صِـداقٍ لا أُضَيِّـعُـهُ
وَمَـن يُـصَـدِّعُ
قَلـبـي ذِكــرَهُ وَإِذا... جَـرى عَلـى قَلبِـهِ ذِكـري يُصَدِّعُـهُ
لَأَصـبِـرَنَّ
لِـدهرٍ لا يُمَتِّـعُـنِـي بِـهِ... وَلا بِـيَ فِــي حــالٍ يُمَتِّـعُـهُ
عِلماً بِـأَنَّ
اِصطِبـاري مُعقِـبُ فَرَجـاً... فَأَضيَـقُ الأَمـرِ إِن فَكَّـرتَ أَوسَـعُـهُ
عَسى اللَيالـي
الَّتـي أَضنَـت بِفُرقَتَنـا... جِسمـي سَتَجمَعُنِـي يَومـاً وَتَجمَـعُـهُ
وَإِن تُـغِـلُّ
أَحَــدَاً مِـنّـا مَنـيَّـتَـهُ... فَمـا الَّـذي بِقَضـاءِ الـلَـهِ
يَصنَـعُـهُ
_______________________
من كتابي (أروع
أشعار الحب العذري)- صدر عن دار المعرفة للنشر -القاهرة2012م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق