العبقري الدكتور:جمال حمدان، يهتف ضد الجهل والبلطجة والاستبداد..!
رغم رحيله منذ 22 عاما..
بقلم: الطيب أديب
==========
تحل علينا يوم 17 أبريل القادم
الذكرى الثانية والعشرين لرحيل المفكر العبقري أ.د. جمال حمدان.
وُلد جمال محمود صالح حمدان ـ جمال حمدان ـ في قرية "ناي" بمحافظة
القليوبية في 4 فبراير سنة 1928م، ونشأ في أسرة كريمة طيبة تنحدر من قبيلة
"بني حمدان" العربية التي نزحت إلى مصر في أثناء الفتح الإسلامي، وكان جمال حمدان متفوقا في كل مراحل دراسته حتى حصل على الدكتوراه
في فلسفة الجغرافيا من جامعة "ريدنج" عام 1953م، وكان موضوع رسالته
"سكان وسط الدلتا قديماً وحديثاً" ثم عاد لينضم إلى هيئة التدريس بقسم
الجغرافيا في كلية الآداب جامعة القاهرة. وفي العام 1963
تقدّم باستقالته من الجامعة، وتفرغ للبحث والتأليف حتى رحيله عن عالمنا يوم 17 أبريل أثر حادث أليم عندما احترقت شقته في الدقي التي كان متفرغا فيها لإنجاز مشروعه الفكري الحضاري،وذلك ما أثار الشبهات
حول تعرضه للاغتيال من قبل جهات تخشى استكماله إنجاز مشروعه الفكري الذي زلزل
الأرض تحت أقدام هذه الجهات المشبوهة التي كشفها وفضحها هذا العبقري ؟
وترك لنا دكتور جمال حمدان عدة مؤلفات مهمة بالعربية والانجليزية ،وأهم
مؤلفاته باللغة العربية: (دراسات في العالم العربي- دراسة في جغرافيا المدن-
المدينة العربية- بترول العرب- - اليهود أنثربولوجيا-
إستراتيجية الاستعمار والتحرير- العالم
الإسلامي المعاصر-6 أكتوبر في الإستراتيجية
العالمية- موسوعة"شخصية مصر - دراسة
في عبقرية المكان"4 أجزاء-وكتب أخرى..).
وكل كتاب من مؤلفاته يعد موسوعة في حد
ذاته تحتاج لصفحات مطولة للحديث عنها، وبينما أقلب في صفحات الجزء الأول من
موسوعته شخصية مصر ،وفي مقدمة الجزء الأول منها كتب حمدان تحت عنوان :
"مايكتب ومالا يكتب"،وجدت أنني أمام عبقري من طراز خاص لا يكتب كغيره من
الجغرافيين المعاصرين،كما أنه لا يصف ويحلل مظاهر سطح مصر وحدوها ومناخها وإمكاناتها
البشرية والسياسية تحليل العاشق للمكان بكل تفاصيله فقط، وإنما هو يحلل ويشرح
الشخصية المصرية بكل عيوبها والتي تسببت في تأخر هذه الأمة عن سائر الأمم
وانهزامها وتسليمها مقدرات الوطن لأعدائها.وسأكتفي هنا بسرد ببعض السطور من هذه
المقدمة الفريدة التي كتبها هذا المفكر العبقري، وكأنه مازال يعيش بيننا هذه
الأيام التي نتجرع مرارتها.يقول مستنكرا النرجسية المبالغة في تمجيد الذات التي
تربينا عليها كمصريين : (فنحن كشعب-لابد لنا بصراحة أن نعترف-لا نحب فقط أن نمجد
ونطري أنفسنا بحق وبغير حق،ولكننا أيضا نحب أن نسمع عن أنفسنا ما يرضينا ويعجبنا
أو يرضي إعجابنا بذاتنا الوطنية وبشخصيتنا القومية.بل أننا لنكره أشد الكره أن
نسمع عن عيوبنا وشوائبنا نرفض بإباء أن نواجهها أو نواجه بها،ولا تكاد توجد ميزة
على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا ونلصقها بها.و أيما رذيلة أو عيب فينا- أن
هي وجدت على الإطلاق!- فلا محل لها لدينا من الإعراب أو الاعتراف،وان اعترفنا بها
على مضض واستثناء فلها عندنا العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنعة أو المقنعة).
الكبر المرضي:
ويضيف واصفا الحالة الشوفينية البهاء التي
شخصها بالكبر المرضي يقول: (ليس هذا فحسب
،أو ليت هذا فحسب .فما أكثر بعد ذلك ما نقلب
عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن،بل أسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر
بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها ! ولعل هذا تجسيد لقمة ماسماه البعض "الشخصية
الفهلوية". ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها .بل
الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا كلما زاد تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا
،كلما زدنا زدنا هزيمة وانكسارا كلما زدنا افتخارا بأننا شعب محارب،وكلما زدنا
استسلاما وتسليما كلما زدنا تباهيا بأننا
شعب سلام متحضر...أيا ما كان،فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي وإلى درجة تتجاوز
الكبرياء الصحي إلى الكبر المرضي.ونحن نتلذذ بمارسة عبادة الذات في نرجسية تتجاوز
العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى النعرة الشوفينية الساذجة البهاء العوجاء..).
النخب المسلطة:
وفي حال ظهور كتاب غيورين على وطنهم ينتقدون تردي الأوضاع في
الوطن سرعان ما يتسلط عليهم الكتاب النخب تهاجمهم وتكيل لهم الاتهامات الجاهزة كما
يقول دكتور حمدان : (لا يمكن لكاتب أو عالم أو مفكر أن يوجه إلى مصر نقدا موضوعيا
بناء صادقا مخلصا إلا وعد على التو و الفور وللغرابة والدهشة:عدوا بغيضا أو حاقدا
موتورا إن كان أجنبيا،وخائنا أعظم أو أحقر إن كان مصريا،وهذا وذاك إنما "افتراءات على
مصر والمصريين" أو أكاذيب وأباطيل..).وفي المقابل يقول دكتور حمدان : (وحينما يمسي الكاتب ،كشاعر القبيلة في
الجاهلية "صناجة" الوطن وبوق الشعب كيفما كانت حقيقتها ومهما كانت هذه
حقا أو باطلا.وبذلك يفقد الكاتب وظيفته الاجتماعية ومبرر وجوده الوطني).
وأما الكاتب الحق الغيور على وطنه ،فيقول
عنه دكتور حمدان : (الحقيقة أن ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى إنما هو وحده
الذي-لصالحها- ينقدها بقوة وبقسوة إذا لزم الأمر و بلا مداراة أو مداورة.فصديقك من
صدقك لا من صدقك ..ومن يك حازما فليقس
أحيانا على من يرحم.بل أن هذا الكاتب ليؤمن إيمانا مطلقا بأن مصر لن تتغير
ولن تتطور أو تخرج من حمأتها التاريخية الراهنة إلا حين يأتيها المفكر والحاكم
الصادق كلاهما مع نفسه و الجريء مع جمهوره فيواجهه علنا بعيوبه بلا وجل ولا دجل).
أعداء الوطن:
وأما أعدى أعداء مصر الذين يخدعون المواطن
فيصفهم المفكر جمال حمدان قائلا : ( قد يكون أعدى أعداء مصر هم بعض المصريين
المتعصبين ،أولئك الذين يدفنون بإصرار رءوسهم في الرمال ويتغابون أو يتغافلون عمدا عن عيوبنا ،زاعمين باستمرار أم أم الدنيا
مصر بخير وان ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن...والمؤسف أكثر أن على رأس هؤلاء الأعداء لمصر بالجهل والجهالة
وضيق الأفق يأتي غالبا ولا نقول دائما الحكم والحاكم.فالسياسي،الذي-بالتعريف- يبيع
الوطنية للمواطن،لا يملك إلا أن يقدم
الأوهام الوطنية والمخدرات التاريخية للجماهير،فمصر أم "أم الدنيا أم
الاختراع،أم الحضارة،فاتحة التاريخ،،فوق الجميع،خير أمة أخرجت للناس"،"أم
العرب"أيضا..الخ.والحاكم ،في الوقت الذي قد يكون أكثر من يسوم الشعب العسف
والخسف والهوان والذلة والقهر الجسدي أو المعنوي أو كليهما،بحيث يصبح هو مصدر كل
عيوبه وسوالبه،الحاكم لا يتورع بالديماجوجية مع ذلك من ينافقه ويتزلف إليه
ويتملق غرائزه الوطنية الطبيعية بتضخيم ذاته وتعظيم صفاته ومناقبه وأمجاده).
وقاعدة تمجيد الحكام تجسيد الوطن في
شخصيتهم ليست وليدة اليوم وإنما هي متوارثة منذ عهدا الفراعنة كما يرى مفكرنا
دكتور جمال حمدان فيقول: ( والقاعدة عند كل حاكم أننا –بزعمه-نعيش دائما في عصره
أروع وأمجد فترة في تاريخنا وحياتنا بلا استثناء.كل عصر عند صاحبه هو،وهو وحده،عصر
مصر الذهبي.منذ تلك نغمة أزلية وبضاعة مزهاة يكررها كل حاكم منذ عهد الفراعنة في
نقوشهم وسجلاتهم الهيروغليفية على جدران الآثار حتى اليوم في أبواق الدعاية ووسائل
الإعلام التي لا تتحرج ولا تخجل..ولأن الحاكم بالنظرية أو التطبيق،بالوراثة،أو
الممارسة،يتوهم مصر دائما ملكا له ،ضيعته أو قريته الكبرى،هو الدولة وهو
الوطن،والولاء للوطن هو وحده الولاء للنظام،فإنه يعتبر أن كل نقد موجه لمصر إنما
هو موجه إليه شخصيا ،وبالتالي فهو خيانة
وطنية،خيانة عظمى.باختصار،النظام أو الحاكم هو بالضرورة والواقع العدو الطبيعي
لناقد مصر الموضوعي أيا كان.والغالب أنه
يتخذ من المفكر الناقد لمصر "صبي الضرب whipping-boy" التقليدي وكبش الفداء الدوري على مذبح الشعبية الرخيصة
ومداهنة الشعب (وإرهابه أيضا) ).
عملاء الطغاة:
وأما خداع الناس من عوام الشعب ونخبه
المأجورة فيستغرب دكتور جمال حمدان من جهلهم وتملقهم فيقول عنهم: ( الغريب المؤسف
أن الشعب المخدوع الساذج نصف الجاهل قد يستأسد ويبطش بابنه ناقده الوطني الذي يريد
له الخير والسيادة فيدينه ويسلمه تسليما لسوط الحكم وهكذا وللغرابة والدهشة فقد
نجد الشعب المسكين المضلل –ولا نقول الخائف المروع_ يتبادل مع قيادته العاجزة
الفاشلة الباطلة غالبا و جلاده الغاشم الخائن أحيانا أنخاب خداع النفس...ولقد
يشارك بعض زواحف الكتاب الانتهازيين
والمأجورين والعلماء العملاء في هذه المحاورة المخزية أو الديالوج المدمر،فتمجد كل
سلبياتنا ومثالبنا بأي منطق،بل وقد تزين لنا العبودية في الداخل أو في الخارج أي للحكم الغاشم أو للعدو الغاصب على الترتيب.ولئن كان منطق
عملاء الطغاة الزائف ليس إلا منطق العبيد ،إلا أن الناقد المثقف المفكر الوطني
الحق يجد نفسه هكذا في النهاية محاصرا-للغرابة والدهشة أكثر- بين قوسين من الإرهاب
والترويع الفكري والجسدي،الحاكم الطاغية المغتر من جهة والشعب المكبل المقهور
المغلوب على أمره من الجهة الأخرى .وهكذا يعود الناقد الوطني مرغما مرة أخرى إلى
المنطق المعكوس المرفوض، منطق" عيوب هذا الشعب وأمراضه ومآسيه ومآله ومصيره
هي جميعا عقابه الطبيعي المستحق.!).
رحم لله عاشق مصر- المفكر العبقري -
د.جمال حمدان ، الذي غرس فينا الانتماء لهذا الوطن ،وعلمنا رفض القهر والاستبداد
،ومقاومة عبادة الذات، وشهوة تقديس الحكام تلك التي أوصلت بلادنا لهذه الحال المتردية التي نعيشها..!
===================
نشر بجريدة الشعب -8/أبريل/2015م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق